مقالات وأراء

مصطفى الدناصوري يكتب : ضمائر اللغة وضمائر البشر

 

تختلف ضمائر البشر كما تختلف ضمائر اللغة ، فهناك الضمير المتصل ، والضمير المنفصل ، وضمير الغائب ، وضمير المتكلم ، ولكل ضمير موضعه وطبيعته  فالضمير المتصل موضعه قلب المؤمن ، وهو ضمير حي يستمد حياته من اتصاله بربه ، فصاحبه يعبد الله كأنه يراه ، يراقبه  في سره وعلانيته ، ويتقيه في خلوته وجلوته ، موقنا بأن الله مطلع عليه وناظر إليه ، يرى متقلبه ومثواه ، ويعلم سره ونجواه ، مرددا دوما فيما بينه وبين ربه ” ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى عليك شيء في الأرض ولا في السماء ” ، مؤديا عمله بجد وإتقان وصدق وإخلاص ، لا يبتغي من الناس حمدا ولا ثناء ، ولا ينتظر منهم جزاء ولا شكورا ، فسعيه عند الله مشكور ، وأجره في الآخرة عظيم موفور كما قال تعالى : ” ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا ” ، صاحب هذا الضمير يحفظ العهد ، ويصون الأمانة ، ويصدق الحديث ، ويخلص المودة ، يأمنه الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ؛ فهو يراعي حرمة الأنفس والأموال والأعراض انطلاقا من قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ” إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ” .10580790_1712149419006551_7955152521774350166_o

صاحب هذا الضمير يقدر قيمة المسئولية ، ويشعر بخطورة التفريط فيها ، فيؤدي ما عليه ما وسعه الجهد ، ويخشى أن يقصر فيما هو موكول إليه ، كما كان سيدنا عمر بن الخطاب يستشعر حجم المسئولية الملقاة على عاتقه ، فيردد بين الحين والآخر هذه العبارة : لو عثرت بغلة في العراق لسألني الله ـ تعالى ـ عنها  : لِمَ لمْ تمهد لها الطريق يا عمر؟

صاحب هذا الضمير يحرص على جلب الخير وتحقيق النفع لمجتمعه ، ودفع الضرر عنه بدافع من حبه للناس وخوفه عليهم ، فقد جاء عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال ” : لقد أريت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها من ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين ” .

الضمير المنفصل فهو ضمير انفصل عن نور الله وهداه ، فتحجر قلب صاحبه  وتبلد إحساسه ، فلا رحمة عنده ، ولا خير فيه ، فهو كالحجارة أو أشد قسوة ،  كما قال تعالى : ” ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله ” ، فصاحب هذا الضمير لا يحفظ عهدا ، ولا يرعى أمانة ، ولا يتورع عن ارتكاب معصية . 

صاحب هذا الضمير لا يحسن إلا إذا كانت عليه رقابة ومتابعة من الناس  كما قال الله تعالى : ” يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا ” .

صاحب هذا الضمير كخفافيش الظلام التي تنشط حركتها بعيدا عن الأعين  فيجتمع بعضهم إلى بعض ،  يسعون في الأرض فسادا كما في قوله تعالى:” وَإذَا خَلَوا إلى شَيَاطِينِهِم قَالُوا إنَّا مَعَكُم إنَّمَا نَحنُ مُستَهزِئُونَ اللهُ يَستَهزئُ بِهم وَيَمُدُّهُم في طُغيَانُهم يُعمَهُونَ ” ، وقوله سبحانه : ” وإذَا تَولَّى سَعَى في الأَرضِِ ليُفسِدَ فيهَا وَيُهلكَ الحَرثَ وَالنَّسلَ واللهُ لا يحبُّ الفسَادَ ” .

أما الضمير الغائب فهو ضمير محجوب عن الحق والصواب بسبب مرض القلب وكثرة المعاصي كما قال تعالى : ” كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ” وكما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ” إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتةٌ سوداء في قلبه ، فإن تاب ونَزَع واستغفر صُقِل منها ، وإن زاد زادت حتى يغلَّف بها قلبه ، فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه: ” كلاًّ، بَل رَانَ على قلوبِهِم “, وفي غياب الضمير تغيب القيم وتضيع الحقوق ، وتنتهك الحرمات ، وترتكب المعاصي  والمخالفات .

ومن أكبر أسباب غياب الضمير الغفلة والنسيان والجهل ، كما كان من غياب ضمير إخوة يوسف عندما ألقوه في الجب ، قال تعالى على لسان يوسف لإخوته : ” قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ” .

و قد يعود الضمير الغائب ويصحو إذا ما تعرض صاحبه لما يوقظه من غفلته ويرده من غيبته ، فيعود إلى الحياة من جديد نادما على ما كان ، مستأنفا حياة جديدة بضمير حي يدفعه إلى كل خير ، ويحجزه عن كل شر .    

ويأتي ضمير المتكلم ليكثر أصحابه الحديث عن أنفسهم بأنا ونحن ؛ إما بلهجة الزهو والغرور ، كما يقول أحدهم : أنا فلان بن فلان ، فمن أنت ؟ .. أنا معي كذا وكذا … أنا عندي كذا وكذا .. أنا حاصل على كذا وكذا ..أنا فعلت كذا وكذا ، كما جاء في قوله تعالى على لسان صاحب الجنتين  : ” أنَا أَكثَرُ مِنكَ مَالاً وَأعَزُّ نَفَرًا ” وقوله سبحانه :

وكقول قارون عن نفسه : ” إنَّما أوتيتُه على عِلمٍ عِندِي “

فكان ذلك سببا في هلاكهم  وزوال النعمة من أيديهم ، فصاحب الجنتين أهلك الله جنتيه كما جاء في قوله تعالى : ”  وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا “

وقارون خسف الله به وبداره الأرض كما حكى القرآن الكريم في قوله تعالى : ” فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ ” .

وإما بلهجة الأنانية والأثرة ، كما يقول أحدهم : أنا أحق بذلك من غيري ، كما جاء في القرآن الكريم : ” أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ” والأنانية من الأمراض الفتاكة التي تفتك بأصحابها كما جاء في قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ” ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه “.  اللهم ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا .  

اظهر المزيد

admin

مجلس إدارة الجريدة الدكتور أحمد رمضان الشيخ محمد القطاوي رئيس التحريـر: د. أحمد رمضان (Editor-in-Chief: Dr. Ahmed Ramadan) تليفون (phone) : 01008222553  فيس بوك (Facebook): https://www.facebook.com/Dr.Ahmed.Ramadn تويتر (Twitter): https://twitter.com/DRAhmad_Ramadan الأستاذ محمد القطاوي: المدير العام ومسئول الدعم الفني بالجريدة. الحاصل علي دورات كثيرة في الدعم الفني والهندسي للمواقع وإنشاء المواقع وحاصل علي الليسانس من جامعة الأزهر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »